السَلامُ
عَليكُم ورَحمةُ الله وبرَكاتُه
تقبلَ الله سَائِرَ
أعمَالَكُم الصَالِحَة , وجعَلَكُم في جَنَّاتِ الفِردوس
أعُوذُ
بالله مِنَ الشيطَانِ الرَّجيم
(( مِنكُم
مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ))
إرادة الإنسان بعمله
الدنيا نوع من أنواع الشرك في النية والقصد ، قد حذر الله منه في كتابه ،
وحذر منه رسوله في سنته ،
وهو أن يريد الإنسان بالعمل الذي يبتغى به وجه الله مطمعا من
مطامع الدنيا ، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد
، ويحبط العمل .
قال الله تبارك وتعالى : مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا
يُبْخَسُونَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
ومعنى الآيتين الكريمتين
أن الله سبحانه يخبر أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط
، فإن الله يوفر له ثواب
عمله في الدنيا بالصحة والسرور وبالمال والأهل والولد ، وهذا مقيد
بالمشيئة كما قال في
قوله تعالى في الآية الأخرى : عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ،
وهؤلاء
ليس لهم في الآخرة إلا
النار ؛ لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم منها ، وكان عملهم في الآخرة باطلا
لا ثواب له ؛ لأنهم لم
يريدوها .
قال قتادة : " يقول تعالى : من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته
جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم
يفضي إلى الآخرة وليس له
حسنة يعطى بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ،
ويثاب عليها في الآخرة "
.
قال الشيخ محمد بن عبد
الوهاب رحمه الله : " ذكر عن السلف في معنى الآية أنواع مما يفعله
الناس اليوم ولا يعرفون
معناه :
- فمن ذلك : العمل
الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وصلة
وإحسان إلى الناس وترك
ظلم ، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله ، لكنه لا يريد
ثوابه في الآخرة ، إنما
يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته ، أو حفظ أهله وعياله ، أو إدامة
النعمة عليهم ، ولا همة
له في طلب الجنة والهرب من النار ، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا ،
وليس له في الآخرة نصيب ،
وهذا النوع ذكره ابن عباس .
- النوع الثاني : وهو
أكبر من الأول وأخوف ، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها أنزلت فيه ،
وهو أن يعمل أعمالا
صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة .
- النوع الثالث : أن
يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا مثل أن يحج لمال يأخذه ، أو يهاجر لدنيا
يصيبها ، أو امرأة
يتزوجها ، أو يجاهد لأجل المغنم ، فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير الآية ،
وكما يتعلم الرجل لأجل
مدرسة أهل أو مكسبهم أو رئاستهم ، أو يتعلم القرآن ويواظب على
الصلاة لأجل وظيفة
المسجد كما هو واقع كثيرا .
- النوع الرابع : أن
يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له ، لكنه على عمل
يكفره كفرا يخرج عن
الإسلام ، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء
وجه الله والدار الآخرة ،
ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك يخرجهم من الإسلام
بالكلية ، إذا أطاعوا
الله طاعة خالصة ، يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة ، لكنهم على أعمال
تخرجهم من الإسلام ،
وتمنع قبول أعمالهم ، فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن
مالك وغيره ، وكان السلف
يخافون منها " انتهى ما ذكره رحمه الله .
والآيتان تتناولان هذه
الأنواع الأربعة ؛ لأن لفظهما عام ، فالأمر خطير يوجب على المسلم الحذر
من أن يطلب بعمل الآخرة
طمع الدنيا ، وقد جاء في " صحيح البخاري " أن من كان قصده الدنيا
يجري وراءها بكل همه أنه
يصير عبدا لها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس
عبد
الخميلة
، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . ومعنى
( تعس ) لغة : سقط ،
والمراد هنا هلك ، وسماه عبدا لهذه الأشياء لكونها هي المقصودة بعمله
، فكل من توجه بقصده
لغير الله فقد جعله شريكا له في عبوديته ، كما هو حال الأكثر ، وقد دعا
الرسول صلى الله عليه
وسلم في هذا الحديث على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة
والانتكاسة ، وإصابته
بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده ، ولا بد أن يجد أثر هذه الدعوات كل
من اتصف بهذه الصفات
الذميمة ، فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته .
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله : " فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم
وعبد القطيفة وعبد
الخميصة ، وذكر فيها ما هو دعاء بلفظ الخبر ، وهو قوله : " تعس وانتكس
، وإذا شيك فلا انتقش " ،
وهذا حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح ؛ لكونه تعس
وانتكس ، فلا نال
المطلوب ، ولا خلص من المكروه ، وهذه حال من عبد المال ، وقد وصف ذلك
بأنه إن أعطي رضي ، وإن
منع سخط ، كما قال تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ
فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ
أُعْطُوا
مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ،
رضاهم لغير الله ، وسخطهم لغير الله ،
وهكذا حال من كان متعلقا
منها برئاسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه ، إن حصل له
رضي ، وإن لم يحصل له
سخط ، فهذا عبد ما يهواه من ذلك ، وهو رقيق له ؛ إذ الرق والعبودية
في الحقيقة هو رق القلب
وعبوديته ، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ... " .
إلى أن قال : " وهكذا
طالب المال ، فإن ذلك يستعبده ويسترقه ، وهذه الأمور نوعان :
الأول
: منها ما يحتاج العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو
ذلك ، فهذا
يطلب من الله ، ويرغب
إليه فيه ، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي
يركبه ، وبساطه الذي
يجلس عليه ، من غير أن يستعبده فيكون هلوعا .
الثاني
: ومنها ما لا يحتاج إليه العبد ، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه به ، فإذا
علق قلبه صار
مستعبدا له ، وربما صار
مستعبدا ومعتمدا على غير الله ، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ، ولا
حقيقة التوكل عليه ، بل
فيه شعبة من العبادة لغير الله ، وشعبة من التوكل على غير الله ، وهذا
أحق الناس بقوله صلى
الله عليه وسلم : تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ،
تعس عبد
الخميصة
، تعس عبد الخميلة ، وهذا عبد لهذه الأمور ، ولو طلبها من الله
فإن الله إذا أعطاه إياها
رضي ، وإن منعه إياها
سخط ، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ، ويسخطه ما يسخط الله
، ويحب ما أحبه الله
ورسوله ، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ، ويوالي أولياء الله ، ويعادي
أعداء الله ، فهذا الذي
استكمل الإيمان ... " انتهى كلامه رحمه الله .
قلت : ومن عبيد المال
اليوم الذين يقدمون على المعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة بدافع حب
المادة ، كالذين
يتعاملون بالربا مع البنوك وغيرها ، والذين يأخذون المال عن طريق الرشوة
والقمار ، وعن طريق الغش
في المعاملات والفجور في المخاصمات ، وهم يعلمون أن هذه
مكاسب محرمة ، لكن حبهم
للمال أعمى بصائرهم ، وجعلهم عبيدا لها ، فصاروا يطلبونها من أي
طريق .
{
نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين من الشح المطاع ، والهوى المتبع
، وإعجاب كل ذي رأي برأيه .